فصل: تفسير الآيات (65- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (65- 70):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}
وقوله سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين قَالَ ياقوم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ولكني رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين أُبَلِّغُكُمْ رسالات رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} عاد اسم الحَيِّ، وهم عَرَبٌ فيما يذكر، و{أخاهم} نصب ب أرسلنا وهو معطوف على نوح، وهذه أيضاً نذارة من هود عليه السلام.
وقوله: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} استعطاف إلى التقوى، والإيمان.
وقوله: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}.
قوله: {وَزَادَكُمْ فِي الخلق} أي في الخِلْقَةِ، والبَسْطَةُ الكمال في الطول والعَرْضِ.
وقيل: زادكم على أهل عصركم.
وقال الطبري: زادكم على قَوْمِ نوح. وقاله قتادة.
قال * ع *: واللفظ يقتضي أن الزيادة على جَمِيع العَالم، وهو الذي يقتضيه ما يذكر عنهم.
وروي أن طُولَ الرجل منهم كان مائة ذِرَاعٍ، وطول أقصرهم سِتُّون ونحوها. والآلاء جميع إلًى على مثل معًى، وهي النعمة والمنة.
قال الطبري: وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إِسْحاقَ من ولد عاد بن إرم بن عوض بن سَام بن نوح، وكانت مَسَاكنهم الشّحر من أرض اليمن وما وَالى حَضْرَمَوْتَ إلى عمان.
قال السدي: وكانوا بالأَحْقَافِ، وهي الرمال، وكانت بلادهم أَخْصَبَ بلاد، فردها اللَّه صحارى.
وقال علي بن أبي أبي طالب رضي اللَّه عنه: إن قبر هُودٍ عليه السلام هنالك في كَثِيبٍ أحمر تُخَالطه مدرة ذات أَراكٍ وسِدْر، وكانوا قد فشوا في جميع الأَرْض، وملكوا كثيراً بِقُوَّتِهِمْ وعَدَدِهِمْ، وظَلَمُوا النَّاسَ وَكَانُوا ثَلاَثَةَ عَشَرَ قَبِيلَةً، وكانوا أَصْحَابَ أَوثان، فبعث اللَّه إليهم هُوداً من أفضلهم وأوسطهم نَسَباً، فدعاهم إِلى تَوْحِيدِ اللَّه سبحانه وإلى تَرْكِ الظُّلْمِ.
قال ابن إسحاق: ولم يأمرهم فيما يذكر بِغَيْرِ ذلك، فكذبوه وعتوا، واستمروا على ذلك إلى أن أراد اللَّه إنفاذ أمره أمْسَكَ عنهم المَطَرَ ثلاث سنين، فشقوا بذلك، وكان الناس في ذلك الزمان إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المسجد الحرام ب مكَّة فدعوا اللَّه فيه تَعْظِيماً له مؤمنهم وكافرهم، وأهل مكة يومئذٍ العَمَالِيقُ، وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بَكْرٍ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وَفداً إلى مكة يَسْتَسْقُونَ اللَّه لهم، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال، وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه، وجلهمة بن الخبيري في سَبْعِينَ رَجُلاً من قومهم، فلما قدموا مكة نَزَلُوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارج الحَرَمِ، فأنزلهم، وأقاموا عنده شَهْراً يشربون الخَمْرَ، وتغنيهم الجَرَادَتَانِ قَيْنَتَا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم، وقد بعثهم عَادٌ لِلْغَوْثِ أشفق على عَادٍ، وكان ابن أختهم أمه: كلهدة ابنة الخبيرى أخت جلهمة، وقال: هَلَكَ أخوالي، وشق عليه أن يأمر أَضْيَافَهُ بالانصراف عنه، فشكا ذلك إلى قَيْنَتَيْهِ، فقالتا: اصنع شِعْراً نغني به، عسى أَن نُنَبِّهَهُمْ، فقال: [الوافر]
أَلاَ يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ** لَعَلَّ اللَّهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا

فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَاداً ** قَدَ امسوا لاَ يُبَينُونَ الكَلاَمَا

مِنَ العَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ** بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلاَ الغُلاَمَا

وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْر ** فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ عيامى

وَإِن الوُحْشَ تَأْتِيهِمْ جَهَاراً ** وَلاَ تخشى لِعَادِيٍّ سِهَامَا

وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُم ** نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا

فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمِ ** وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا

فغنت به الجَرَادَتَانِ، فلما سمعه القَوْمُ قال بعضهم: يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حَلَّ بهم، فادخلوا هذا الحَرَمَ، وادعوا لَعَلَّ اللَّه يغيثهم فخرجوا لذلك، فقال لهم مرثد بن سعد: إنكم واللَّه ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم سقيتم، وأظهر إيمانه يومئذٍ، فَخَالَفَهُ الوَفْدُ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احْبِسَا عنا مرثداً، ولا يدخل معنا الحَرَم، فإنه قد اتبع هُوداً، ومَضَوْا إلى الحرم، فاستسقى قيل بن عنز، وقال: يا إلاهنا إن كان هود صادقاً، فاسقنا، فإنا قد هلكنا، فأنشأ اللَّه تعالى سحائب ثَلاَثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى مُنَادٍ من السماء: يَا قَيْلُ اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شِئْتَ، فقال قيل: قد اخترت السَّوداء فإنها أكثرهن مَاءً، فنودي.
قد اخترت رَمَاداً رَمْدداً ** لاَ تُبْقُي مِنْ عَادٍ أَحَدَا

لا وَالِداً وَلاَ وَلَداً ** إِلاَّ جَعَلْتُهُمْ هَمَدَا

وساق اللَّه السَّحَابَةَ السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من وَادٍ لهم يقال له: المُغِيثُ، فلما رأوها، قالوا هذا عَارِضٌ ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها: مهدر، فصاحت وصعقت، فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت ريحاً فيها كَشُهبِ النار، أمامها رجال يَقُودُونَهَا، فسخرها اللَّه عليهم سَبْعَ ليال، وثمانية أيام حُسْوماً، والحُسُوم: الدائمة، فلم تَدَعْ من عَادٍ أحداً إلا هلك، فاعتزل هود، ومن معه من المُؤْمنين في حَظِيرَةٍ ما يصيبه من رِيحٍ إلا ما يلتد به.
قال * ع *: وهذا قصص وقع في تفسير الطبري مطولاً، وفيه اختلاف، فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز، وفي خبرهم: أن الريح كانت تَدْمَغُهُمْ بالحِجَارَةِ، وترفع الظَّعِينَةَ عليها المرأة حتى تلقيها في البحر.
وفي خبرهم: أن أقوياءهم كان أحدهم يسدّ بنفسه مَهَبَّ الريح حتى تَغْلبَهُ فتلقيه في البَحْر، فيقوم آخر مكانه حتى هَلَكَ الجَمِيعُ. وقال زيد بن أسلم: بلغني أن ضَبُعاً رَبَّتْ أولادها في حِجَاجِ عَيْنِ رَجُلٍ منهم.
وفي خبرهم: أن اللَّه سبحانه لما أهلكهم بَعَثَ طيراً، فنقلت جِيفَهُمْ حتى طرحتها في البَحْرِ، فذلك قوله سبحانه: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] وفي بعض ما رُويَ من شأنهم أن الريح لم تُبْعَثْ قط إلا بِمِكْيَالٍ إلا يومئذٍ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنَةِ، فغلبتهم، فذلك قوله سحبانه: {فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمَنَ معه إلى مكة فكانوا بها حتى مَاتُوا، فاللَّه أعلم أي ذلك كَانَ.
وقولهم: {أجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ...} الآية: ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم، ويفردون العبادة للَّه مع إقرارهم بالإله الخَالِقِ المُبْدِعِ، وهذا هو الأظهر فيهم، وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية اللَّه تعالى من الكَفَرَةِ إلا مَنْ أفرطت غباوته.
وقولهم: {فأْتِنَا بِمَا تَعِدُنا}: تَصْمِيمٌ على التكذيب، واستعجالٌ للعقوبة.

.تفسير الآيات (71- 72):

{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}
وقوله سبحانه: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي في أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المُنتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا...} الآية: أعلمهم بأن القَضَاءَ قد نَفذ، وحَلَّ عليهم الرجس، وهو السخط والعذاب.
وقوله: {أَتُجَادِلُونَنِي في أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} أي: في مسمَّيات سميتموها آلهة، و{قَطَعْنَا دَابِرَ} استعارة تُسْتَعْمَلُ فيمن يُسْتأصَل بالهلاك، والدابر: الذي يَدْبُرُ القوم، ويأتي خَلْفَهُمُ، فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك، فلم يبق أحد.
وقوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} دالّ على المعجزة، وإن لم تتعين.
* ت *: ومن مُعْجِزَاتِهِ قوله: {فَكِيدُونيِ جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنظِرونِ} [هود: 55] على ما سيأتي إن شاء الله في موضعه.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}
وقوله سبحانه: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحَاً قَالَ ياقوم اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأَكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأَخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قرأ الجمهور: و{إلى ثَمُودَ} بغير صَرْفٍ؛ على إرادة القبيلة، وقرأ يحيى بن وثَّاب والأعمشُ: {وإلى ثَمُودٍ} بالصرف؛ على إرادة الحيِّ والقراءتان فصيحتان، مستعملتان، وقد قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68]، و{أَخاهُمْ} عطْفٌ على نوح، والمعنى: وأرسلنا إِلى ثمود أخاهم، وهي أخوَّة نسب، وهم قومٌ عربٌ، فَهُودٌ وَصَالِحٌ عربيَّان، وكذلك إِسماعيل وشُعَيْب؛ كذا قال الناس، وفي أمر إِسماعيل نَظَرٌ.
* ت *: النظرُ الذي أشار إليه لا يخفى عليك؛ وذلك أن إِسماعيل والدهُ إبراهيم عليه السلام أَعْجميٌّ، وتعلَّم إسماعيل العربيةَ من العرب الَّذين نَزَلُوا عليه بمكَّة؛ حَسَب ما ذكره أهْل السيرة فهذا وجْهُ النظر الذي أشار إليه، وفي نظره رحمه الله نَظَرٌ يمنعني مِنَ البَحْث معه ما أنا له قاصدٌ من الإيجاز والاختصار، دون البَسْط والانتشار، نَعَمْ خَرَّج أبو بكر الآجُرِّيُّ من حديث أَبي ذر رضي اللَّه عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وأَرْبَعَةٌ من العَرَبِ: هُودٌ، وَشُعَيْبٌ، وَصالحٌ وَنَبيُّكَ، يَا أَبَا ذَرًّ» انتهى، ولم يذكر إِسماعيل، فهذا الحَديثُ قد يَعْضُدُ ما قاله * ع *: وصالحٌ عليه السلام هو صالحُ بنُ عُبَيْدِ بن عَابِرِ بنْ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ؛ كذا ذكر مكِّيٌّ.
قال وهْبٌ: بعثه اللَّه حين راهق الحُلُمَ، ولمَّا هلك قومُهُ، ارتحل بمَنْ معه إِلى مكَّة، فأقاموا بها حتى ماتوا فقُبُورُهُمْ بَيْنَ دار الندوة والحِجْر، أي: كما ارتحلَ هودٌ بمَنْ معه إِلى مكَّة صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: آيةٌ أو حجة أو موعظة بيِّنة من ربكم، قال بعض الناس: إِن صالحاً جاء بالناقة من تلقاء نَفْسه.
وقال الجمهور: بل كانَتْ مقْتَرَحَةً، وهذا أليقُ بما ورد في الآثارِ من أمرهم، رُوِيَ أنَّ قومه طَلَبُوا منْهُ آية تضْطَرُّهم إِلى الإِيمان، وقالوا: يا صالح، إن كنْتَ صادقاً، فادع لنا ربَّكَ يُخْرِجْ لنا من هذه الهَضْبَةِ، وفي بعضِ الروايات مِنْ هذه الصَّخْرَةِ- لِصَخَّرةٍ بالحِجْر- نَاقَةً عُشَراءَ، فَدَعَا اللَّهَ، فتمخَّضت تلك الهَضْبةُ، وانشقت عن ناقةٍ عظيمة، وروي أنها كانَتْ حاملاً، فولدَتْ سَقَبَها المشهور.
ورُوِيَ أنه خرج معها فَصِيلُها من الصخْرة.
وقيل لها: {نَاقَةُ اللَّهِ}؛ تشريفاً لها، وتخصيصاً، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إلى خالقِ، وجعل اللَّه لها شِرْباً يوماً، ولهم شِرْب يومٍ، وكانت آية في شُرْبها وحَلْبها.
قال المفسِّرون: كانت خلقاً عظيماً تأتي إِلى الماء بين جبلين، فيزحمانها من العَظْم، وقاسَمَتْ ثمود في الماء يوماً بيومٍ، فكانت الناقةُ تَرِدُ يومها، فتستوفي ماءَ بئْرهم شُرْباً، ويحلبونها ما شَاؤوا من لَبَنٍ، ثُم تمكُثُ يوماً، وترد بعد ذلك غِبًّا، فاستمر ذلك ما شاء اللَّه حتى ملَّتها ثمود، وقالوا: مَا نَصْنَعُ باللَّبَنِ؛ الماءُ أَحبُّ إِلينا منه، وكان سببُ المَلَلِ فيما روي: أنها كانَتْ تصيفُ في بطن الوادِي، وادي الحجر وَتَشْتُو في ظاهره، فكانت مواشيهم تفرُّ منها، فتمالؤوا على مَلَلِ الناقةِ، وَرُوِيَ أن صالحاً أوحى اللَّه إِلَيْهِ أَنَّ قومك سَيَعْقُرونَ الناقة، وينزلُ بهم العذابَ عند ذلك، فأخبرهم بذلك، فقالوا: عِيَاذاً بِاللَّهِ أنْ نفعل ذلك، فقال: إِنْ لم تفعلوا أنْتُمْ أوْشَكَ أنْ يولَدَ فيكم مَنْ يفعله، وقال لهم صفةَ عَاقِرِها: أَحْمرُ، أشْقَرُ، أَزْرَقُ، فَوُلِدَ قُدَارٌ على الصفة المذكورة، فكان الذي عَقَرها بالسيف، وقيل: بالسهم في ضَرْعها، وهَرَب فَصِيلها عند ذلك؛ حتَّى صَعِدَ على جبلٍ يقال له القَارة، فَرَغَا ثلاثاً، فقال: يا صَالحُ، هذا ميعادُ ثلاثةِ أيامٍ للعذابِ، وأمرهم قبل رُغَاءِ الفَصِيل أنْ يطلبوه عسى أنْ يصلوا إِلَيْهِ، فيندفع عنهم العذابُ به، فرامُوا الصعودَ إِلَيْهِ في الجبل فارتفع الجبلُ في السماء؛ حتى ما تناله الطيرُ؛ وحينئذٍ رغا الفصيلُ، وروي أنَّ صالحاً عليه السلام قال لهم، حين رغا الفَصيلُ: سَتَصْفَرُّ وجوهُكم في اليوم الأولَ، وتحمرُّ في الثاني، وتسودُّ في الثالث، فلمَّا ظهرت العلامَاتُ التي قال لهم، أيْقَنُوا بالهلاك، واستعدوا، ولَطَّخُوا أبدانهم بالمُرِّ، وحفروا القبورَ، وتحنَّطوا وتكفَّنوا في الأنطاع، فأَخذتْهم الصيحةُ، وخرج صالحٌ ومَنْ آمن معه؛ حتى نَزَلَ رَمْلَةَ فلسطينَ، وقد أكثر الناسُ في هذا القصص، وهذا القَدْر كافٍ، وَمِنْ أراد استيفاء هذا القصص، فليطالِعِ الطبريَّ.
قال * ع *: وبلادُ ثَمُود هِيَ بَيْنَ الشامِ والمدينة، وهي التي مَرَّ بها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في غَزْوَةِ تَبُوك فقال: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنَّ تَكُونُوا بَاكينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، ثُمَّ اعتجر بِعمامَةٍ»، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حتى جَازَ الوَادِي صلى الله عليه وسلم.
* ت *: ولفظُ البخاريِّ: ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ... الحديث.

.تفسير الآيات (74- 79):

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
وقوله سبحانه: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض...} {بَوَّأَكُمْ}: معناه مكَّنكم، وهي مستعملة في المكانِ وظروفِهِ، والقُصُور: جمع قَصْر، وهي الديارُ التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصةٍ؛ بخلاف بُيُوت العمود، وقُصِرَتْ على الناس قصراً تامًّا، والنحْتُ: النَّجْرُ والقَشْر في الشيء الصُّلْب؛ كالحَجَر والعُودِ، ونَحْوه، وكانوا ينحتون الجبالَ لطولِ أعمارِهِمْ، وتَعْثَوْا معناه تُفْسِدُوا.
قال أبو حيان: و{مُفْسِدِينَ}: حالٌ موكِّدة. انتهى.
و{الَّذِينَ استكبروا} هم الأشرافُ والعظماء الكَفَرة، و{الَّذِينَ استضعفوا}: هم العامة والأَغْفَالُ في الدنيا، وهم أتْبَاعُ الرُّسُلِ، وقولهم: {أَتَعْلَمُونَ}: استفهام؛ على معنى الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصَّرامة في دين اللَّه، فحملت الأنفةُ الأشرافَ عَلى مناقَضَةِ المؤمنين في مَقَالَتهم، واستمروا على كُفْرِهم.
وقوله سبحانه: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ} يقتضي بتَشْريكهم أجميعن في الضمير أن عقر الناقة كان على تَمَالُؤٍ منهمْ واتفاقٍ، وكذلك رُوِيَ أنَّ قُدَاراً لم يعقْرها حتى كان يستشيرُ، و{عَتَوْاْ}: معناه: خَشُنُوا وصَلُبُوا، ولم يذعنوا للأمر والشرعِ، وصمَّموا على تكذيبه، واستعجلوا النِّقْمة بقولهم: {ائتنا بِمَا تَعِدُنَا}، فحلَّ بهم العذابُ، و{الرَّجْفَةُ}: ما تؤثِّره الصيحةُ أو الطَّامَّة التي يُرْجَفُ بها الإِنسانُ، وهو أن يتحرَّك ويضْطَرِب، ويرتَعِدَ؛ ومنه: «فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» وروي أنَّ صيحة ثَمُود كان فيهَا مِنْ كلِّ صوتٍ مهولٍ، وكانت مُفْرَطة شقَّتْ قلوبَهُمْ، فجثموا على صدورهم، والجِاثم اللاَّطئ بالأرض على صَدْره، ف {جَاثِمِينَ}: معناه: باركين قَدْ صُعِقَ بهم، وهو تشبيه بجُثُوم الطير، وجُثُوم الرماد، وقال بعض المفسرين: معناه: حميماً محترقين؛ كالرماد الجاثم، وذهب صاحبُ هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعقُ مُحْرِقَةٌ، وروي أن الصيحةَ أصابَتْ كلَّ مَنْ كان منهم في شَرْق الأرض وغَرْبِهَا إِلاَّ رَجُلاً كان في الحَرَم، فمنعه الحرمُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ خروجه من الحَرَم؛ ففي مُصَنَّف أبي داود، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: أبُو رُغَالٍ، وذكر الطبريُّ أيضاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر يردُّ ما في السير من أَنَّ أَبا رُغَالٍ هو دليلُ الفِيل، وقوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ}، أي: تولَّى عنهم وقت عَقْر الناقة، وذلك قبل نزول العذاب؛ وكذلك رُوِيَ أنه عليه السلام خَرَجَ مِنْ بين أظهرهم قبل نزول العذاب، وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم، ويحتمل أن يكون خطابُهُ لهم وهُمْ موتى؛ على جهة التفجُّع عليهم، وذكر حالهم أو غير ذلك؛ كما خاطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهْل قليب بَدْر. قال الطبريُّ؛ وقيل: إنه لم تَهْلِكْ أُمَّة، ونبيُّها معها، ورُوِيَ أنه ارتحلَ بمَنْ معه حتَّى جاء مكَّة، فأقام بها حتى مات، ولفظ التولِّي يقتضي اليأْس مِنْ خَيْرهم، واليقينَ في إِهلاكهم، وقوله: {ولكن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين}: عبارةٌ عن تغليبهم الشهواتَ عَلَى الرأْي السديد؛ إذ كلامُ الناصح صَعْبٌ مُضادٌّ لشهوة الذي يُنصحُ، ولذلك تقول العرب: أمْرُ مُبْكِيَاتِكَ لاَ أَمْرُ مُضْحِكَاتِكَ.